فصل: من فوائد صاحب المنار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذكر قدس سره، في بعض فتاويه، أن السلف والأئمة الأربعة والجمهور يقولون: الأدلة بعضها أقوى من بعض في نفس الأمر. وعلى الْإِنْسَاْن أن يجتهد ويطلب الأقوى. فإذا رأى دليلًا أقوى من غيره، ولم ير ما يعارضه، عمل به، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. وإذا كان في الباطن ما هو أرجح منه كان مخطئًا معذورًا، وله أجر على اجتهاده وعمله بما بين له رجحانه، وخطؤه مغفور له، وذلك الباطن هو الحكم، لكن بشرط القدرة على معرفته، فمن عجز عن معرفته لم يؤاخذ بتركه، فإذا أريد بالخطأ الإثم، فليس المجتهد بمخطئ، بل كان مجتهد مصيب، مطيع لله، فاعل ما أمره الله به، وإذا أريد له عدم العلم بالحق في نفس الأمر، فالمصيب واحد، وله أجران. كما في المجتهدين في جهة الكعبة، إذا صلوا إلى أربع جهات، فالذي أصاب الكعبة واحد، وله أجرأن لاجتهاده وعمله، كان أكمل من غيره، والمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ومن زاده الله علمًا وعملًا زاده الله أجرًا بما زاده من العلم والعمل، قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83] قال مالك عن زيد بن أسلم: بالعلم، وكذلك قال في قصة يوسف: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]. وقد تبين بذلك أن جميع المجتهدين إنما قالوا بعلم، واتبعوا العلم، وأن الفقه من أجلّ العلوم، وأنهم ليسوا من الذين لا يتبعون إلا الظن، لكن بعضهم قد يكون عنده علم ليس عند الآخر، إما بأن سمع ما لم يسمع الآخر، وإما بأن فهم ما لم يفهم الآخر، كما قال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78- 79]. وهذه حال أهل الاجتهاد والنظر والاستدلال، في الأصول والفروع.
ثم قال: وإذا تدبر الْإِنْسَاْن تنازع الناس وجد عند كل طائفة من العلم ما ليس عند الأخرى، كما في مسائل الأحكام. ولم يستوعب الحق إلا من اتبع المهاجرين والأنصار، وآمن بما جاء به الرسول كله على وجهه، وهؤلاء هم أهل المرحمة الذين لا يختلفون. انتهى.
فعلم أن اختلاف الصحابة والتابعين والمجتهدين في الفروع ليس مما تشمله الآية، فإن المراد منها الاختلاف عن الحق، بعد وضوحه، يرفضه، وشتان ما بين الاختلافين. ثم على طالب الحق أن يستعمل نظره فيما يؤثر من هذه الخلافيات، فما وجده أقوى دليلًا أخذ به، وإلا تركه. وحينئذ يكون ممن قال الله تعالى فيه: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17- 18]. وإذا اشتبه عليه مما قد اختلف فيه، فليدعُ بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول- إذا قام يصلي من الليل- «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، أنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم». فإن الله تعالى قال فيما رواه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديت، فاستهدوني أهدكم». انتهى.
الرابع: ذكر بعض المفسرين، هنا، ما روي من حديث «اختلاف أمتي رحمة»، ولا يعرف له سند صحيح، ورواه الطبراني والبيهقي في المدخل بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعًا. قال بعض المحققين: هو مخالف لنصوص الآيات والأحاديث، كقوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118- 119].
ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» وغيره من الأحاديث لكثيرة، والذي يقطع به أن الاتفاق خير من الخلاف- انتهى-.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود بسندهما عن أبي عامر عبد الله بن يحيى قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان، فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة- يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وأنه سيخرج في أمتي أقوام تَجَارَى بهم تلك الأهواء، كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله؛ والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء نبيكم صلى الله عليه وسلم، لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به».
قال ابن كثير: وقد روي هذا الحديث من طرق. انتهى.
نبذة في مبدأ الاختلاف في هذه الأمة من أهل الأهواء:
ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب الفرقان بين الحق والباطل أن المسلمين كانوا في خلافة أبي بكر وعمر، وصدرًا من خلافة عثمان في السنة الأولى من ولايته متفقين لا تنازع بينهم، ثم حدث في أواخر خلافة عثمان أمور أوجبت نوعًا من التفرق، وقام قوم من أهل الفتنة والظلم، فقتلوا عثمان فتفرق المسلمون بعد مقتل عثمان. ولما اقتتل المسلمون بصفِّين واتفقوا على تحكيم حكمين خرجت الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وفارقوه وفارقوا جماعة المسلمين. وحدث في أيامه الشيعة أيضا، لكن كانوا مختفين بقولهم لا يظهرونه لعلي وشيعته، بل كانوا ثلاث طوائف.
طائفة: تقول أنه إله، وهؤلاء، لما ظهر عليهم، أحرقهم بالنار.
والثانية: السابة وكان قد بلغه عن أبي السودا أنه كان يسب أبا بكر وعمر، فطلبه قيل: أنه طلبه ليقتله فهرب منه.
والثالثة: المفضِّلة الذي يفضلونه على الشيخين، وقد تواتر عنه أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر.
وروى ذلك البخاري في صحيحه.
ثم في آخر عصر الصحابة حدثت القدرية، ثم حدثت المرجئة، ثم قال: وإن الناس في ترتيب أهل الأهواء على أقسام: منهم من يرتبهم على زمان حدوثهم، فيبدأ بالخوارج، ومنهم من يرتبهم بحسب خفة أمرهم وغلظه فيبدأ بالمرجئة ويختم بالجهمية، كما فعله كثير من أصحاب أحمد رضي الله عنه، كعبد الله ابنه، ونحوه، وكالخلاّل، وأبي عبد الله بن بطة وأمثالهما، وكأبي الفرج المقدسي. وكلا الطائفتين تختم بالجهمية، لأنهم أغلظوا البدع. وكالبخاري في صحيحه. فإنه بدأ بكتاب الإيمان والرد على المرجئة، وختمه بكتاب التوحيد والرد على الزنادقة والجهمية.
ثم قال قدس سره: إن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان، فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والاختلاف، صار أهل التفرق والاختلاف شيعًا، وعمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم، عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدرية والإيمان بالرسول وغير ذلك. وثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به، وما خالفهما تأولوه، فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما، ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى، إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر إلى غير ذلك. والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن. ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول، بل أن يدفع منازعه من الاحتجاج بها. ثم قال قدس سره: فعلى كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعًا لما جاء به الرسول، ولا يتقدم بين يديه، بل ينظر ما قال، فيكون قوله تبعًا لقوله، وعلمه تبعًا لأمره، كما كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين. فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله ولا يوسوس دينًا غير ما جاء به الرسول. وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه، نظر فيما قاله الله والرسول، فمنه يتعلم وبه يتكلم، وفيه ينظر ويتفكر، وبه يستدل، فهذا أصل أهل السنة.
وقال قدس سره في رسالته إلى جماعة الشيخ عدي بن مسافر ما نصه: وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ الله بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14]، فمتى ترك الناس بعضهم ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب، وجماع ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} إلى قوله: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عِمْرَان: 102- 104]. فمن الأمر بالمعروف الأمر بالائتلاف والاجتماع والنهي عن الاختلاف والفرقة، ومن النهي عن المنكر: إقامة الحدود على من خرج من شريعة الله تعالى. ثم قال: ويجب على أولي الأمر، وهم علماء كل طائفة وأمراؤها ومشايخها أن يقوّموا عامتهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر، فيأمرونهم بما أمر الله به ورسوله، وينهونهم عما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار:

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ- رَحِمَهُ اللهُ تعالى- مَا مِثَالُهُ: إِنَّ اللهَ تعالى قَدْ وَضَعَ لَنَا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ قَاعِدَةً نَرْجِعُ إِلَيْهَا عِنْدَ تَفَرُّقِ الْأَهْوَاءِ وَاخْتِلَافِ الْآرَاءِ، وَهِيَ الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِهِ؛ وَلِذَلِكَ نَهَانَا عَنِ التَّفَرُّقِ بَعْدَ الأمر بِالِاعْتِصَامِ، الَّذِي قُلْنَا فِي تَفْسِيرِهِ: أنه تَمْثِيلٌ لِجَمْعِ أَهْوَائِهِمْ وَضَبْطِ إِرَادَتِهِمْ. وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُسَلَّمَةِ: أنه لَا تَقُومُ لِقَوْمٍ قَائِمَةٌ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُمْ جَامِعَةٌ تَضُمُّهُمْ وَوَحْدَةٌ تَجْمَعُهُمْ وَتَرْبِطُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، فَيَكُونُونَ بِذَلِكَ أُمَّةً حَيَّةً كَأَنَّهَا جَسَدٌ وَاحِدٌ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ. وَحَدِيثِ: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى. فَإِذَا كَانَتِ الْجَامِعَةُ الْمُوَحِّدَةُ لِلْأُمَّةِ هِيَ مَصْدَرُ حَيَاتِهَا- سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُؤْمِنَةً أَمْ كَافِرَةً- فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِالْوَحْدَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَهُمْ إِلَهًا وَاحِدًا يَرْجِعُونَ فِي جَمِيعِ شُئُونِهِمْ إِلَى حُكْمِهِ الَّذِي يَعْلُو جَمِيعُ الْأَهْوَاءِ، وَيَحُولُ دُونَ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ، بَلْ هَذَا هُوَ يَنْبُوعُ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ لِمَا دُونَ الْأُمَمِ مِنَ الْجَمْعِيَّاتِ حَتَّى الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ) وَلَمَّا كَانَ لِكُلِّ جَامِعَةٍ وَكُلِّ وَحْدَةٍ حِفَاظٌ يَحْفَظُهَا أَرْشَدَنَا- سُبْحَانَهُ وَتعالى- إِلَى مَا نَحْفَظُ بِهِ جَامِعَتَنَا الَّتِي هِيَ مَنَاطُ وَحْدَتِنَا- وَأَعْنِي بِهَا الِاعْتِصَامَ بِحَبْلِهِ- فَقَالَ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
فَالأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ حِفَاظُ الْجَامِعَةِ وَسِيَاجُ الْوَحْدَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْمُفَسِّرُونَ فِي قوله تعالى: {مِنْكُمْ} هَلْ مَعْنَاهُ: بَعْضُكُمْ، أَمْ مِنْ بَيَانِيَّةٌ؟ ذَهَبَ مُفَسِّرُنَا الْجَلَالُ إِلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَسَبَقَهُ إِلَيْهِ الْكَشَّافُ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِالثَّانِي، قَالُوا: وَالْمَعْنَى: وَلْتَكُونُوا أُمَّةً تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَدِّ لِيَكُنْ لِي مِنْكَ صَدِيقٌ فَالأمر عَامٌّ، وَيَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [103: 1- 3] فَإِنَّ التَّوَاصِيَ هُوَ الأمر وَالنَّهْيُ، وَقَوْلُهُ- عَزَّ وَجَلَّ-: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسرائيل عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [5: 78، 79] وَمَا قَصَّ اللهُ عَلَيْنَا شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ إِلَّا لِنَعْتَبِرَ بِهِ. وَقَدْ أَشَارَ الْمُفَسِّرُ الْجَلَالُ إِلَى الِاعْتِرَاضِ الَّذِي يَرِدُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَهُوَ أنه يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَأْمُرُ وَيَنْهَى أن يكون عَالِمًا بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ وَالْمُنْكَرِ الَّذِي يَنْهَى عَنْهُ، وَفِي النَّاسِ جَاهِلُونَ لَا يَعْرِفُونَ الْأَحْكَامَ، وَلَكِنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى مَا يَجِبُ أن يكون عَلَيْهِ الْمُسْلِمُ مِنَ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْمَفْرُوضَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ خِطَابُ التَّنْزِيلِ هُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَجْهَلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْعِلْمِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ يُرَادُ بِهِ مَا عَرَفَتْهُ الْعُقُولُ وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ، وَالْمُنْكَرُ ضِدُّهُ وَهُوَ مَا أَنْكَرَتْهُ الْعُقُولُ وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ، وَلَا يَلْزَمُ لِمَعْرِفَةِ هَذَا قِرَاءَةُ حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ عَلَى الدُّرِّ، وَلَا فَتْحِ الْقَدِيرِ وَلَا الْمَبْسُوطِ، وَإِنَّمَا الْمُرْشِدُ إِلَيْهِ- مَعَ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ- كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ الْمَنْقُولَةُ بِالتَّوَاتُرِ وَالْعَمَلِ، وَهُوَ مَا لَا يَسَعُ أَحَدًا جَهْلُهُ، وَلَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ مُسْلِمًا إِلَّا بِهِ، فَالَّذِينَ مَنَعُوا عُمُومَ الأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ جَوَّزُوا أن يكون الْمُسْلِمُ جَاهِلًا لَا يَعْرِفُ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ، وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ دِينًا.
ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ وَالأمر وَالنَّهْيَ لَهَا مَرَاتِبٌ، فَالْمَرْتَبَةُ الأولى: هِيَ دَعْوَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَائِرَ الْأُمَمِ إِلَى الْخَيْرِ وَأَنْ يُشَارِكُوهُمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ النُّورِ وَالْهُدَى، وَهُوَ الَّذِي يَتَّجِهُ بِهِ قَوْلُ الْمُفَسِّرِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ: الإسلام. وَقَدْ فَسَّرْنَا الإسلام مِنْ قَبْلُ بأنه دِينُ اللهِ عَلَى لِسَانِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ، وَهُوَ الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ تعالى وَالرُّجُوعُ عَنِ الْهَوَى إِلَى حُكْمِهِ، وَهَذَا مَطْلُوبٌ مِنَّا بِحُكْمِ جَعْلِنَا أُمَّةً وَسَطًا وَشُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ- كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ- وَخَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ- كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ آيَاتٍ مُقَيَّدًا بِكَوْنِنَا نَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ- وَبِحُكْمِ قوله تعالى فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَذِنَ لَهُمْ بِالْقِتَالِ: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتُوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [22: 41].
فَالْوَاجِبُ دَعْوَةُ النَّاسِ إِلَى الإسلام أَوَّلًا، فَإِنْ أَجَابُوا فَالْوَاجِبُ أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَ: وَأَمَّا كَوْنُ هَذَا حِفَاظًا لِلْوَحْدَةِ وَمَانِعًا مِنَ الْفُرْقَةِ فَهُوَ أَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى هَذَا الْمَقْصِدِ الْعَالِي الشَّرِيفِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُسَيْطِرَةً عَلَى الْأُمَمِ كُلِّهَا وَمُرَبِّيَةً لَهَا وَمُهَذِّبَةً لِنُفُوسِهَا فَلَا شَكَّ أَنَّ جَمِيعَ الْأَهْوَاءِ الشَّخْصِيَّةِ تَتَلَاشَى مِنْ بَيْنِهِمْ، فَإِذَا عَرَضَ الْحَسَدُ وَالْبَغْيُ لِأَحَدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ تَذَكَّرُوا وَظِيفَتَهُمُ الْعَالِيَةَ الشَّرِيفَةَ الَّتِي لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالتَّعَاوُنِ وَالِاجْتِمَاعِ، فَأَزَالَتِ الذِّكْرَى مَا عَرَضَ، وَشَفَتِ النُّفُوسُ قَبْلَ تَمَكُّنِ الْمَرَضِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ فِي الدَّعْوَةِ وَالأمر وَالنَّهْيِ: هِيَ دَعْوَةُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا إِلَى الْخَيْرِ وَتَآمُرُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهِيهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْعُمُومُ فِيهَا ظَاهِرٌ أيضا، وَلَهُ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: الدَّعْوَةُ الْعَامَّةُ الْكُلِّيَّةُ- قَالَ: كَهَذَا الدَّرْسِ- بِبَيَانِ طُرُقِ الْخَيْرِ وَتَطْبِيقِ ذَلِكَ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ، وَضَرْبِ الْأمثال الْمُؤَثِّرَةِ فِي النُّفُوسِ الَّتِي يَأْخُذُ كُلُّ سَامِعٍ مِنْهَا بِحَسَبِ حَالِهِ. وَإِنَّمَا يَقُومُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ خَوَاصُّ الْأُمَّةِ الْعَارِفُونَ بِأَسْرَارِ الْأَحْكَامِ وَحِكْمَةِ الدِّينِ وَفِقْهِهِ، وَهُمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [9: 122] وَمِنْ مَزَايَا هَؤُلَاءِ: تَطْبِيقُ أَحْكَامِ اللهِ تعالى عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَهُمْ يَأْخُذُونَ مِنَ الأمر الْعَامِّ بِالدَّعْوَةِ وَالأمر وَالنَّهْيِ عَلَى مِقْدَارِ عِلْمِهِمْ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الدَّعْوَةُ الْجُزْئِيَّةُ الْخَاصَّةُ، وَهِيَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْأَفْرَادِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، وَهُوَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْمُتَعَارِفِينَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْخَيْرِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ عِنْدَ عُرُوضِهِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الشَّرِّ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَأْخُذُ مِنَ الْفَرِيضَةِ الْعَامَّةِ بِقَدْرِهِ.